السبت، 20 أكتوبر 2012

أسباب ودلالات الأزمة المالية العالمية الحالية كتبهاعبد الحكيم أحمين ، في 4 أكتوبر 2008 الساعة: 06:50 ص لست خبيرا اقتصاديا، ولذلك تعيّن علي أن أنكبّ على قراءة تحليلات متنوعة لخبراء اقتصاديين بارزين في محاولة لفهم أسباب ودلالات الأزمة المالية التي تواجهها الولايات المتحدة حاليا، استخلصت منها ما يلي: 1- يعاني الاقتصاد الأميركي من «فقاعات اقتصادية» تنفجر منذ فترة بين حين وآخر محدثة ارتباكا في أسواق المال، يتفاوت حجمه من حال إلى أخرى. ففي عام 2000 انفجرت فقاعة أطلق عليها اسم «فقاعة الانترنت»، بعد أن ظلت تتضخم مدة عشر سنوات، محدثة هزة محدودة في قطاع المال. وفي العام الماضي انفجرت فقاعة أخرى اسمها «فقاعة الرهن العقاري» وأدى انفجارها إلى سلسلة من الهزات أثّرت في الاقتصاد الأميركي ككل ولم يقتصر تأثيرها على القطاع المالي هذه المرة. 2- «الفقاعة» الأخيرة نجمت من تزايد إقبال الأميركيين، أفرادا وشركات، على شراء العقارات، لامتلاك مسكن أو كاستثمار طويل الأجل وأحيانا للمضاربة، مما أدى إلى ارتفاع أسهم الشركات العقارية المسجلة بالبورصة إلى أن أصبح الاستثمار العقاري أفضل انواع الاستثمارات وأكثرها ربحية، وأغرى البنوك على التوسع في تقديم التسهيلات الائتمانية من دون ضمانات كافية، فبدأت الفقاعة في الظهور وراحت تتمدد تدريجيا إلى أن انفجرت في صيف عام 2007 بعد أن انهار سوق العقارات وعجز ملايين المقترضين عن سداد القروض التي حصلوا عليها بضمان العقارات، ثم بدأت أسهم الشركات العقارية الكبرى تتراجع بسرعة في البورصات العالمية محدثة هزة مالية كبرى. 3- ما لبثت العدوى أن انتقلت من القطاع العقاري إلى قطاع البنوك الدائنة لكبرى الشركات العقارية حين راحت هذه الشركات تتعثر وراح بعضها يعلن إفلاسه. وهكذا بدأت أسهم هذه البنوك بدورها تهبط نتيجة عدم سداد المقترضين لقروضهم، ومعها بدأ القطاع المالي والمصرفي برمّته يترنح. أي أن الأزمة بدأت بقطاع العقارات الأميركية وانتقلت منه إلى القطاع المالي والمصرفي ثم إلى بقية القطاعات الاقتصادية في الولايات المتحدة. 4- مع احتداد الأزمة اضطرت الإدارة الأميركية للتدخل في محاولة لاحتوائها، ولكن بشكل حذر في البداية، إذ قامت بضخ 150 بليون دولار في القطاع المصرفي خلال شهر آب (اغسطس). غير أنه سرعان ما تبين لها أن حجم الكارثة أكبر بكثير مما كان يعتقد في البداية، خصوصا بعد انهيار بنك «ليمان براذرز»، أحد أكبر وأقدم البنوك الأميركية، وظهور بوادر تصدع في مؤسسات مالية أخرى عملاقة. ومع تصاعد المخاوف من أن تؤدي الهزات الناجمة عن انفجار هذه «الفقاعة العقارية» إلى تراجع الإنفاق والاستهلاك اليومي على نحو قد يفضي إلى مرحلة كساد طويلة، قررت الإدارة الأميركية الاستحواذ على شركتي «فاني ماي» و «فريدي ماك» الضامنتين لنصف القروض العقارية، ومقدارها 12 تريليون دولار، بعد أن عانتا من خسائر مالية مقدارها 14 بليون دولار خلال سنة واحدة، وذلك في إطار خطة إنقاذ تسمح للدولة بوضع ضوابط للإقراض العقاري، وتحديد سعر فائدة تلتزم به كل البنوك وتحول دون التلاعب به، إضافة إلى شراء ديون المؤسسات المالية المتعثرة بما قيمته 700 بليون دولار. 5- أظهر النقاش الذي دار في الكونغرس حول خطة الانقاذ (والذي لا يزال محتدما) أن الهوة السياسية والأيديولوجية التي تفصل بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي كبيرة جدا. فعلى رغم موافقة الديموقراطيين من حيث المبدأ على تدخل الدولة، إلا أنهم رفضوا تحميل دافعي الضرائب، خصوصاً متوسطي ومحدودي الدخل الذين تتعرض مساكن كثيرين منهم إلى المصادرة بسبب عجزهم عن تسديد أقساط الرهونات العقارية عليها، أخطاء طبقة أكثر يسرا تدير أعمال الشركات العملاقة وتتقاضى رواتب سنوية خيالية تسبب نهمها البالغ ورغبتها في مضاعفة مكاسبها، ولو من خلال أرباح وهمية، في اندلاع وتفاقم الأزمة. 6- لم يتردد أقرب حلفاء الولايات المتحدة، خصوصاً ألمانيا وفرنسا، في تحميل الإدارة الأميركية الحالية مسؤولية ما حدث، على رغم اضطرارهم للتضامن معها حفاظا على مصالح زادتها آليات العولمة تشابكا، بل راحت أصوات كثيرة وقوية توجه الاتهامات إلى النظام الرأسمالي نفسه وتطالب بوضع ضوابط لتنظيم عمل آليات السوق والحد من توحش قوى رأسمالية تبدو احتكارية الطابع وبعيدة عن الممارسات الشفافة. وإذا صحت قراءتنا المبسطة هذه لأسباب وتداعيات أزمة بالغة التعقيد، يمكننا أن نستنتج منها ثلاث حقائق على جانب كبير من الأهمية: الحقيقة الأولى: أن الأزمة قد تبدو في ظاهرها مالية - اقتصادية لكنها في جوهرها سياسية - اجتماعية. الحقيقة الثانية: أن لهذه الأزمة بعدين مرتبطين ومتداخلين لا يمكن فهم أي منهما بمعزل عن الآخر، أحدهما يتعلق بالصراع السياسي والاجتماعي الدائر على الساحة الأميركية، والآخر يتعلق بصراع وموازين القوى العالمية. الحقيقة الثالثة: من المرجح أن يكون لهذه الازمة تأثير كبير ليس فقط على هيكل النظام الدولي وموازين القوة فيه ولكن أيضا على مستقبل النظام الرأسمالي نفسه. ورغم مظاهر قلق يصعب إخفاؤها، ما زال «الليبراليون الجدد» يؤكدون أن الأزمة الحالية هي مجرد أزمة دورية عابرة، شأنها في ذلك شأن الأزمات العشر السابقة التي واجهت النظام الرأسمالي خلال المئة عام الأخيرة وخرج منها في كل مرة سليما معافى، بل أقوى مما كان عليه. غير أن هذا الاستنتاج يبدو متعجلا بعض الشيء لأن الأزمة الحالية تبدو مختلفة عن سابقاتها من زاويتين على الأقل: الأولى، أنها تأتي في مرحلة متقدمة من مراحل تطور النظام الرأسمالي والذي دخل مرحلة الكونية ولم يعد أمامه حيز إضافي يستطيع أن يتمدد فيه ويصدّر إليه تناقضاته. والثانية، انفجار الأزمة في قلب الاقتصاد الأميركي، أقوى حلقات النظام الدولي، بعد أن بدأت تظهر عليه علامات وهن وإرهاق ينذران بالأفول. كان النظام الرأسمالي، والذي ارتبط في نشأته بانطلاق الثورة الصناعية وظهور الدولة القومية الحديثة في أوروبا، قد راح يتمدد إلى أن تحوّل إلى نظام كوني شمل العالم بأسره، مستفيدا في مسيرته الطويلة، والتي امتدت لأكثر من ثلاثة قرون، من ثورات علمية وتكنولوجية متعاقبة كان ساعد في الوقت نفسه على تفجيرها، محدثا تغييرات هائلة في البنى الاقتصادية والاجتماعية التقليدية في مختلف المناطق التي دخلها. وكان من الطبيعي أن تفرز هذه التغييرات قلاقل سياسية واجتماعية أخذت أحيانا شكل ثورات وحروب دولية وإقليمية وأهلية أعادت تشكيل الخريطة السياسية للعالم ولموازين القوى فيه على نحو دائم ومستمر. ولأن أوروبا هي التي شهدت انطلاق الثورة الصناعية، فقد كان من الطبيعي أن تقود مسيرة التوسع الرأسمالي نحو العالمية عبر توسعها الاستعماري والذي شمل العالم بأسره تقريبا وأدى إلى تعرض قارات إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لعملية نهب منظم. وتسبب الصراع على المستعمرات بين القوى الأوروبية المتنافسة في اندلاع حرب عالمية أولى مهدت الطريق لانتصار أول ثورة اشتراكية في العالم تستلهم الأيديولوجية الماركسية والتي شكلت أكبر تحدٍ يواجه النظام الرأسمالي منذ قيامه. ومن المفارقات أن تؤدي التقلصات السياسية والاجتماعية التي أصابت أوروبا عقب قيام نظام اشتراكي في الاتحاد السوفياتي إلى إنتاج نظم فاشية وعنصرية تسببت في اشعال حرب عالمية ثانية اسفرت عن تراجع مكانة القارة برمّتها ونشوء نظام دولي جديد بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. غير أن دورة التاريخ لم تتوقف عند هذا الحد. ففي سياق الحرب الباردة التي نشبت بين قطبي النظام الدولي الجديد تم إعادة تأهيل الدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية لتصبح تدريجيا قوى اقتصادية عظمى، وانطلقت عملية تكاملية واندماجية بين أوروبا الغربية كان يصعب تصور حدوثها في سياق آخر، وهي عوامل ساعدت في النهاية على حسم الحرب الباردة لصالح المعسكر الغربي. وكان يمكن للتاريخ أن يأخذ مسارا آخر مختلفا تماما لو لم يكن اليمين الأميركي المتطرف، والذي أسكرته نشوة السقوط المذهل والسريع للاتحاد السوفياتي، قد تصور أنه بات من الممكن تأسيس امبراطورية أميركية على أنقاض الاتحاد السوفياتي لتهيمن منفردة على العالم ولقرن آخر مقبل. ويبدو أن الفجوة المتمثلة في القوة الشاملة، والتي كانت تفصل بين الولايات المتحدة وبقية القوى الكبرى في النظام الدولي، والتي كانت تميل بشكل حاسم في ذلك الوقت لصالح الولايات المتحدة، قد خدعت هذا التيار المتطرف، فلم يضع في حسبانه تكلفة الهيمنة المنفردة، خصوصا إذا جرى فرضها بوسائل القوة العسكرية وحدها، والوقت الذي تحتاجه روسيا والقوى الدولية الأخرى لكي تستعيد تماسكها أو لتأكيد مكانتها، من ناحية ثانية. لذا لم يكن غريبا أن يجري الترويج لنظريات «نهاية التاريخ» و «صراع الحضارات» لتبرير سياسات ومخططات عدوانية جاهزة ومعدّة سلفا. وبمجرد نجاح جورج بوش في الفوز في انتخابات الرئاسة عام 2000، عاقدا العزم على غزو واحتلال العراق، اعتقد أن الهيمنة على الشرق الأوسط ستصبح في متناول يده بمجرد إتمام هذا الغزو الذي سيمكنه من التحكم في أكبر مخزون لاحتياطات النفط في العالم. ومن الواضح أن اليمين الأميركي أخطأ الحساب على الأصعدة كافة. فقد تحوّلت الحرب على العراق إلى حرب استنزاف للموارد المالية والبشرية الأميركية، وتماسكت روسيا ثم استعادت بعضا من هيبتها ومكانتها بأسرع مما كان متوقعا، ونمت الصين وازدادت قوتها بمعدلات أكبر مما كان مقدرا، وظهرت قوى إقليمية أخرى عديدة، خصوصاً في آسيا وأميركا اللاتينية، غيرت من شكل خريطة وموازين القوى في النظام الدولي على نحو مختلف عما كانت تأمله الولايات المتحدة. الأزمة الناجمة عن «الفقاعة العقارية» تأتي إذن على خلفية من: 1- أزمة اقتصادية عامة لها مظاهر عديدة تبدو معها الولايات المتحدة كدولة تعيش بأفضل مما تتيحه لها قدراتها الحقيقية. فهناك مديونية حكومية تتزايد باستمرار وصلت في العام 2007 إلى حوالي 9 تريليونات دولار (مقابل أقل من 4 تريليونات في نهاية الثمانينات)، عجز تجاري مزمن منذ العام 1971 وصل في العام 2006 إلى 758 بليون دولار، وعجز في الميزانية قدر سنة 2008 بأكثر من 400 بليون دولار. 2- أزمة سياسية عامة نجمت من تهور وأخطاء ارتكبتها إدارة المحافظين الجدد وأفقدت الولايات المتحدة مصداقيتها ومكانتها الأخلاقية. غير أن ذلك ليس معناه أن الولايات المتحدة باتت على وشك الانهيار أو انها في طريقها للتحوّل إلى قوة من الدرجة الثانية. كل ما هناك أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة جاءت لتؤكد للعقلاء من النخبة الأميركية أنه لم يعد بمقدور الولايات المتحدة أن تستمر في نهج السياسات الداخلية والخارجية ذاتها التي انتهجتها طول السنوات الثماني الماضية، وأنها باتت في حاجة ماسة لإعادة ترتيب بيتها من الداخل والتخلي عن أوهامها الامبراطورية ورسم سياستها الخارجية بما يتناسب مع إمكاناتها الحقيقية، ما قد يفضي، إن حدث، إلى إعادة النظر في مجمل أفكار اليمين المحافظ على نحو قد يفتح الطريق أمام بلورة أفكار جديدة تروّض وحش الرأسمالية وتضفي بعدا أكثر إنسانية على عمليات العولمة. ومع ذلك لا نستبعد أن تدفع الأزمة نحو الاتجاه المعاكس، أي إلى طريق الهاوية! صحيفة الحياة اللندنية-حسن نافعة 1/10/2008 المصدر: http://www.daralhayat.com/opinion/09-2008/Article-20080930-b4119532-c0a8-10ed-01ae-81ab4fc31342/story.html


أسباب ودلالات الأزمة المالية العالمية الحالية

كتبهاعبد الحكيم أحمين ، في 4 أكتوبر 2008 الساعة: 06:50 ص

لست خبيرا اقتصاديا، ولذلك تعيّن علي أن أنكبّ على قراءة تحليلات متنوعة لخبراء اقتصاديين بارزين في محاولة لفهم أسباب ودلالات الأزمة المالية التي تواجهها الولايات المتحدة حاليا، استخلصت منها ما يلي:

1- يعاني الاقتصاد الأميركي من «فقاعات اقتصادية» تنفجر منذ فترة بين حين وآخر محدثة ارتباكا في أسواق المال، يتفاوت حجمه من حال إلى أخرى. ففي عام 2000 انفجرت فقاعة أطلق عليها اسم «فقاعة الانترنت»، بعد أن ظلت تتضخم مدة عشر سنوات، محدثة هزة محدودة في قطاع المال. وفي العام الماضي انفجرت فقاعة أخرى اسمها «فقاعة الرهن العقاري» وأدى انفجارها إلى سلسلة من الهزات أثّرت في الاقتصاد الأميركي ككل ولم يقتصر تأثيرها على القطاع المالي هذه المرة.

2- «الفقاعة» الأخيرة نجمت من تزايد إقبال الأميركيين، أفرادا وشركات، على شراء العقارات، لامتلاك مسكن أو كاستثمار طويل الأجل وأحيانا للمضاربة، مما أدى إلى ارتفاع أسهم الشركات العقارية المسجلة بالبورصة إلى أن أصبح الاستثمار العقاري أفضل انواع الاستثمارات وأكثرها ربحية، وأغرى البنوك على التوسع في تقديم التسهيلات الائتمانية من دون ضمانات كافية، فبدأت الفقاعة في الظهور وراحت تتمدد تدريجيا إلى أن انفجرت في صيف عام 2007 بعد أن انهار سوق العقارات وعجز ملايين المقترضين عن سداد القروض التي حصلوا عليها بضمان العقارات، ثم بدأت أسهم الشركات العقارية الكبرى تتراجع بسرعة في البورصات العالمية محدثة هزة مالية كبرى.

3- ما لبثت العدوى أن انتقلت من القطاع العقاري إلى قطاع البنوك الدائنة لكبرى الشركات العقارية حين راحت هذه الشركات تتعثر وراح بعضها يعلن إفلاسه. وهكذا بدأت أسهم هذه البنوك بدورها تهبط نتيجة عدم سداد المقترضين لقروضهم، ومعها بدأ القطاع المالي والمصرفي برمّته يترنح. أي أن الأزمة بدأت بقطاع العقارات الأميركية وانتقلت منه إلى القطاع المالي والمصرفي ثم إلى بقية القطاعات الاقتصادية في الولايات المتحدة.

4- مع احتداد الأزمة اضطرت الإدارة الأميركية للتدخل في محاولة لاحتوائها، ولكن بشكل حذر في البداية، إذ قامت بضخ 150 بليون دولار في القطاع المصرفي خلال شهر آب (اغسطس). غير أنه سرعان ما تبين لها أن حجم الكارثة أكبر بكثير مما كان يعتقد في البداية، خصوصا بعد انهيار بنك «ليمان براذرز»، أحد أكبر وأقدم البنوك الأميركية، وظهور بوادر تصدع في مؤسسات مالية أخرى عملاقة. ومع تصاعد المخاوف من أن تؤدي الهزات الناجمة عن انفجار هذه «الفقاعة العقارية» إلى تراجع الإنفاق والاستهلاك اليومي على نحو قد يفضي إلى مرحلة كساد طويلة، قررت الإدارة الأميركية الاستحواذ على شركتي «فاني ماي» و «فريدي ماك» الضامنتين لنصف القروض العقارية، ومقدارها 12 تريليون دولار، بعد أن عانتا من خسائر مالية مقدارها 14 بليون دولار خلال سنة واحدة، وذلك في إطار خطة إنقاذ تسمح للدولة بوضع ضوابط للإقراض العقاري، وتحديد سعر فائدة تلتزم به كل البنوك وتحول دون التلاعب به، إضافة إلى شراء ديون المؤسسات المالية المتعثرة بما قيمته 700 بليون دولار.

5- أظهر النقاش الذي دار في الكونغرس حول خطة الانقاذ (والذي لا يزال محتدما) أن الهوة السياسية والأيديولوجية التي تفصل بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي كبيرة جدا. فعلى رغم موافقة الديموقراطيين من حيث المبدأ على تدخل الدولة، إلا أنهم رفضوا تحميل دافعي الضرائب، خصوصاً متوسطي ومحدودي الدخل الذين تتعرض مساكن كثيرين منهم إلى المصادرة بسبب عجزهم عن تسديد أقساط الرهونات العقارية عليها، أخطاء طبقة أكثر يسرا تدير أعمال الشركات العملاقة وتتقاضى رواتب سنوية خيالية تسبب نهمها البالغ ورغبتها في مضاعفة مكاسبها، ولو من خلال أرباح وهمية، في اندلاع وتفاقم الأزمة.

6- لم يتردد أقرب حلفاء الولايات المتحدة، خصوصاً ألمانيا وفرنسا، في تحميل الإدارة الأميركية الحالية مسؤولية ما حدث، على رغم اضطرارهم للتضامن معها حفاظا على مصالح زادتها آليات العولمة تشابكا، بل راحت أصوات كثيرة وقوية توجه الاتهامات إلى النظام الرأسمالي نفسه وتطالب بوضع ضوابط لتنظيم عمل آليات السوق والحد من توحش قوى رأسمالية تبدو احتكارية الطابع وبعيدة عن الممارسات الشفافة.
وإذا صحت قراءتنا المبسطة هذه لأسباب وتداعيات أزمة بالغة التعقيد، يمكننا أن نستنتج منها ثلاث حقائق على جانب كبير من الأهمية:
الحقيقة الأولى: أن الأزمة قد تبدو في ظاهرها مالية - اقتصادية لكنها في جوهرها سياسية - اجتماعية.
الحقيقة الثانية: أن لهذه الأزمة بعدين مرتبطين ومتداخلين لا يمكن فهم أي منهما بمعزل عن الآخر، أحدهما يتعلق بالصراع السياسي والاجتماعي الدائر على الساحة الأميركية، والآخر يتعلق بصراع وموازين القوى العالمية.
الحقيقة الثالثة: من المرجح أن يكون لهذه الازمة تأثير كبير ليس فقط على هيكل النظام الدولي وموازين القوة فيه ولكن أيضا على مستقبل النظام الرأسمالي نفسه.

ورغم مظاهر قلق يصعب إخفاؤها، ما زال «الليبراليون الجدد» يؤكدون أن الأزمة الحالية هي مجرد أزمة دورية عابرة، شأنها في ذلك شأن الأزمات العشر السابقة التي واجهت النظام الرأسمالي خلال المئة عام الأخيرة وخرج منها في كل مرة سليما معافى، بل أقوى مما كان عليه. غير أن هذا الاستنتاج يبدو متعجلا بعض الشيء لأن الأزمة الحالية تبدو مختلفة عن سابقاتها من زاويتين على الأقل: الأولى، أنها تأتي في مرحلة متقدمة من مراحل تطور النظام الرأسمالي والذي دخل مرحلة الكونية ولم يعد أمامه حيز إضافي يستطيع أن يتمدد فيه ويصدّر إليه تناقضاته. والثانية، انفجار الأزمة في قلب الاقتصاد الأميركي، أقوى حلقات النظام الدولي، بعد أن بدأت تظهر عليه علامات وهن وإرهاق ينذران بالأفول.

كان النظام الرأسمالي، والذي ارتبط في نشأته بانطلاق الثورة الصناعية وظهور الدولة القومية الحديثة في أوروبا، قد راح يتمدد إلى أن تحوّل إلى نظام كوني شمل العالم بأسره، مستفيدا في مسيرته الطويلة، والتي امتدت لأكثر من ثلاثة قرون، من ثورات علمية وتكنولوجية متعاقبة كان ساعد في الوقت نفسه على تفجيرها، محدثا تغييرات هائلة في البنى الاقتصادية والاجتماعية التقليدية في مختلف المناطق التي دخلها. وكان من الطبيعي أن تفرز هذه التغييرات قلاقل سياسية واجتماعية أخذت أحيانا شكل ثورات وحروب دولية وإقليمية وأهلية أعادت تشكيل الخريطة السياسية للعالم ولموازين القوى فيه على نحو دائم ومستمر.

ولأن أوروبا هي التي شهدت انطلاق الثورة الصناعية، فقد كان من الطبيعي أن تقود مسيرة التوسع الرأسمالي نحو العالمية عبر توسعها الاستعماري والذي شمل العالم بأسره تقريبا وأدى إلى تعرض قارات إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لعملية نهب منظم. وتسبب الصراع على المستعمرات بين القوى الأوروبية المتنافسة في اندلاع حرب عالمية أولى مهدت الطريق لانتصار أول ثورة اشتراكية في العالم تستلهم الأيديولوجية الماركسية والتي شكلت أكبر تحدٍ يواجه النظام الرأسمالي منذ قيامه. ومن المفارقات أن تؤدي التقلصات السياسية والاجتماعية التي أصابت أوروبا عقب قيام نظام اشتراكي في الاتحاد السوفياتي إلى إنتاج نظم فاشية وعنصرية تسببت في اشعال حرب عالمية ثانية اسفرت عن تراجع مكانة القارة برمّتها ونشوء نظام دولي جديد بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

غير أن دورة التاريخ لم تتوقف عند هذا الحد. ففي سياق الحرب الباردة التي نشبت بين قطبي النظام الدولي الجديد تم إعادة تأهيل الدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية لتصبح تدريجيا قوى اقتصادية عظمى، وانطلقت عملية تكاملية واندماجية بين أوروبا الغربية كان يصعب تصور حدوثها في سياق آخر، وهي عوامل ساعدت في النهاية على حسم الحرب الباردة لصالح المعسكر الغربي. وكان يمكن للتاريخ أن يأخذ مسارا آخر مختلفا تماما لو لم يكن اليمين الأميركي المتطرف، والذي أسكرته نشوة السقوط المذهل والسريع للاتحاد السوفياتي، قد تصور أنه بات من الممكن تأسيس امبراطورية أميركية على أنقاض الاتحاد السوفياتي لتهيمن منفردة على العالم ولقرن آخر مقبل.

ويبدو أن الفجوة المتمثلة في القوة الشاملة، والتي كانت تفصل بين الولايات المتحدة وبقية القوى الكبرى في النظام الدولي، والتي كانت تميل بشكل حاسم في ذلك الوقت لصالح الولايات المتحدة، قد خدعت هذا التيار المتطرف، فلم يضع في حسبانه تكلفة الهيمنة المنفردة، خصوصا إذا جرى فرضها بوسائل القوة العسكرية وحدها، والوقت الذي تحتاجه روسيا والقوى الدولية الأخرى لكي تستعيد تماسكها أو لتأكيد مكانتها، من ناحية ثانية. لذا لم يكن غريبا أن يجري الترويج لنظريات «نهاية التاريخ» و «صراع الحضارات» لتبرير سياسات ومخططات عدوانية جاهزة ومعدّة سلفا. وبمجرد نجاح جورج بوش في الفوز في انتخابات الرئاسة عام 2000، عاقدا العزم على غزو واحتلال العراق، اعتقد أن الهيمنة على الشرق الأوسط ستصبح في متناول يده بمجرد إتمام هذا الغزو الذي سيمكنه من التحكم في أكبر مخزون لاحتياطات النفط في العالم.

ومن الواضح أن اليمين الأميركي أخطأ الحساب على الأصعدة كافة. فقد تحوّلت الحرب على العراق إلى حرب استنزاف للموارد المالية والبشرية الأميركية، وتماسكت روسيا ثم استعادت بعضا من هيبتها ومكانتها بأسرع مما كان متوقعا، ونمت الصين وازدادت قوتها بمعدلات أكبر مما كان مقدرا، وظهرت قوى إقليمية أخرى عديدة، خصوصاً في آسيا وأميركا اللاتينية، غيرت من شكل خريطة وموازين القوى في النظام الدولي على نحو مختلف عما كانت تأمله الولايات المتحدة.

الأزمة الناجمة عن «الفقاعة العقارية» تأتي إذن على خلفية من:
1- أزمة اقتصادية عامة لها مظاهر عديدة تبدو معها الولايات المتحدة كدولة تعيش بأفضل مما تتيحه لها قدراتها الحقيقية. فهناك مديونية حكومية تتزايد باستمرار وصلت في العام 2007 إلى حوالي 9 تريليونات دولار (مقابل أقل من 4 تريليونات في نهاية الثمانينات)، عجز تجاري مزمن منذ العام 1971 وصل في العام 2006 إلى 758 بليون دولار، وعجز في الميزانية قدر سنة 2008 بأكثر من 400 بليون دولار.
 2- أزمة سياسية عامة نجمت من تهور وأخطاء ارتكبتها إدارة المحافظين الجدد وأفقدت الولايات المتحدة مصداقيتها ومكانتها الأخلاقية.

غير أن ذلك ليس معناه أن الولايات المتحدة باتت على وشك الانهيار أو انها في طريقها للتحوّل إلى قوة من الدرجة الثانية. كل ما هناك أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة جاءت لتؤكد للعقلاء من النخبة الأميركية أنه لم يعد بمقدور الولايات المتحدة أن تستمر في نهج السياسات الداخلية والخارجية ذاتها التي انتهجتها طول السنوات الثماني الماضية، وأنها باتت في حاجة ماسة لإعادة ترتيب بيتها من الداخل والتخلي عن أوهامها الامبراطورية ورسم سياستها الخارجية بما يتناسب مع إمكاناتها الحقيقية، ما قد يفضي، إن حدث، إلى إعادة النظر في مجمل أفكار اليمين المحافظ على نحو قد يفتح الطريق أمام بلورة أفكار جديدة تروّض وحش الرأسمالية وتضفي بعدا أكثر إنسانية على عمليات العولمة. ومع ذلك لا نستبعد أن تدفع الأزمة نحو الاتجاه المعاكس، أي إلى طريق الهاوية!

صحيفة الحياة اللندنية-حسن نافعة
1/10/2008
المصدر:
http://www.daralhayat.com/opinion/09-2008/Article-20080930-b4119532-c0a8-10ed-01ae-81ab4fc31342/story.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق